بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، أبريل 04، 2011

هل سيبقى لرهبة الصمت وقتٌ ؟



وكعادتي في التأمل والوقوف حيث الطريق الخالي الممتلئ . هناك في أروقة طرق الجمال الخالية إلّا من قلة يجوبون أعماقها بملئ مختلف، أقف هذه المرة (بين بدايتين)، أحاول (قراءةٌ .. في كفّ النّهر الزمني) لأكشف (مصارحة المأدبة الأخيرة)، وأتحسّس(علامات العالم المستحيل)، استجدي هناك أنْ (يا صبح) أينك ..؟ وأعاتب بحُرقة أكثر أنْ لماذا كل هذا (الصمت المرّ)،  وكيف أنسى (ليلة الذكريات) و(الجريح) لا ينسى (فلسفة الجراح) ولا (رحلة التيه)، وهناك (تحت السكاكين) تصرخ الرّوح أنْ (لا تسألي) فما مضى سوى (طيّفٌ ليليٌّ) و(ثرثرات محموم)، ما مضى (شاعرٌ .. ووطنه في غربة)(مناضل في الفراش)هو و(ابن فلانة) كان (مواطنٌ بلا وطن)، (غريبان .. وكانا هما البلد) هو (صنعانيّ يبحث عن صنعاء)(ضائع في المدينة) يبكي (زحف العروبة) ويناجي(أبو تمّام وعُروبة اليوم) بـ (أغنية من خشب) وماكان يوما سوى(شاعرٌ ووطنه في الغربة)، في قلبه (غير مافي القلوب)(أشواق)، و(كائنات الشوق الآخر) (حقيقة حال) في (زمان بلا نوعية) ..
البردوني شاعر المتوجعين الصُمّت، شاعر رأى ما لا يُرى وتعمّق عشقا وأدبا وفلسفة في أوجاعه المختلفة، وجع اليمن ووجع الغربة ووجع الجسد والروح، وآخرها، وجع العروبة، تتبعت طريق الصمت في شعره وطريقته، فما وجدته إلا عاشقا جميلا لا يفلسف حقيقةً كان أم سخرية إلا أوجاعا وآلاما أحب مصدرها وخانه المصدر كل مرة فآلمه ..
وخلف حديث الصمت كانت القصة والفلسفة والصور كأنها عمليات جراحة في صدرٍ لا يطيّبه الزمان ولا المكان ولا حتى الشعر :
وكيف أنادي ميّتا حال بينه ** وبيني ترابٌ صامتٌ وضريحُ
وما النّوح إلا للثكالى ولم أكن ** كثكلى على صمتِ النّعوشِ  تصيحُ
..
كفّنت صوتُه وصداه السنون **واختفى ظلّه في غبار القرون ** كوعود المُنى في الزمان الخؤون
..
عندما قبّل الثرى منك جرحا **أورق الترب من دماه وفاحا
لا تسألي أين أغلالي سلي ** صمتي وإطراقي عن الأغلال ؟
أشواق روحي في السماء وإنّما ** قدماي في الأصفاد والأوحال
وتوهمي في كل أفق سابح ** وأنا هنا في الصمت كالتمثال
..
أشكو جراحاتي إلى ظلّي كما ** يشكو الحزين إلى الخلّي السّالي
والليل من حولي يضُجّ وينطوي ** في صمته كالظالم المتعالي
..
ويعزف عازف الصمت عزفا مؤبدا :
وفي كل جارحة منك .. فكر ** مضيءٌ وقلبٌ شجيٌّ شغوف
وتعطي السهول ذهول النّبي ** وتعطي الربا حيرة الفيلسوف
وأنت حنين ينادي حنينا ** وألف سؤالٍ يلبّي ألوف
..
أعندي غير هذا الحرف ينوي ** كما أنوي، يعاني ما أعاني
أريد أقومُ، أعيا بانخذالي ** أريد البوح، يعيا ترجماني
فأختلق المنى، وأخاف منها ** وأشجى، ثم أخشى ما شجاني
..
يشتهي الصمت أن يبوح فينسى ** ينتوي أن يرقّ، يمتد أقصى
ينزوي خلف ركبيتيه، كحبلى ** يرعش الطلق بطنها، وهي نعسى
أي شيء تسرّ يا صمت ؟ تعلو ** وجهه صخرتان، شعثا وملسا
ربّما لا يحس، أو ليس يدري ** وهو يغلي يالحسّ، ماذا أحسّا
وجهك الداخليّ، لعينيك منفى ** وجهك الخارجي، لرجليك مرسى
أنت مثلي، بيني وبيني جدار ** وجدار بيني، وبينكَ أجسى
صمت ماالوقت ؟ لا أرى ما أسمّي ** لا الصباح ابتدا ولا الليل أمسى
..
ربّما مات مرارا .. ربّما أبقى، وأتلف
ربما أشتى بنيسان .. وفي كانون، صيّف
ربّما للريح غنّى .. ربّما للصمت، ألّف
فهو يلغو كغبيٍّ .. ويُرائي كالمثقف
مثل من يعني، ويحكي ** غير ما يعني، محرّف
..
ووراء الحنين شعب مسجى ** ملّ موت الحياة، ملّ الملالا
والرّؤى تسأل الرّؤى، كيف ضجّ ** الصمت، واستفسر الخيال الخيالا
..
ما الذي يدوي هنا؟ لاشيء يبدو ** كان يبكي الصمت للصمت ويشدو
كان ينساق جدارٌ موثقٌ ** بجدارٍ وأنين الطين يحدو
كان يرقى، ثم ينحط الحصى ** مثلما ينشق تحت الرمح نهد
وينث الركن للممشى صدىً ** مثلما ينحل فوق التبن عقد
تخرج الأشياء من أوجهها ** ترتدي أخرى، ووجه الحزن فرد
ألمحبون الذين احترقوا ** أورقوا .. بالتّربة انشدُّوا وشَدُّوا
..
ليس في الصمت حكمةٌ  ** لا البلاغات مبلغه
فلسف الرمل يا حصى ** وامنح الريخ أدمغه
لا  أنجلى المختبي ولا ** غطت القبح مصبغه
..
ربّما ارتابوا بصمتي ** ربّما أوحى نقاشي
ربّما أجدى ثباتي ** ربّما خان ارتعاشي
..
كان يبكي وليس يدري لماذا ** ويغني ولا يحسّ التذاذا
وينادي ياذاك .. يصغي لهذا ** وهو ذاك الذي ينادي وهذا
..
وبرغمي يصبح الغازي أخي ** بعدما أضحى أخي أعدى الأعادي
ياصديقي أنت أدنى مِن فمي ** فلماذا أنت أنأى مِن مُرادي
أنت غافٍ بين نومين، أنا ** بين نابي حيةٍ وحشٌ رقادي
متَّ يوماً يا صديقي وأنا ** كل يومٍٍ والردى شربي وزادي
انت في قبر وحيد هادئٍ ** انا في قبرين: جلدي وبلادي
..
وانطوت في فمي الاغاني وماتَ ** نغمي في حناجر الاوتارِ
وتلاشى شعري ونام شعوري ** نومة الليل فوق صمت القفار
..
وذهولٌ كأنه فيلسوف ** غاب في صمته يناجي الحقيقة
وطيوف كانها ذكريات ** تتهادى من العهود السحيقة
واحتضنا اطيافه في مآقينا ** كما يحضن العشيق العشيقة
..
دربنا رحلةٌ وشوكٌ ووحلٌ ** وسباع حيرى وحيات قفرِ
ومتاهٌ تحير الصمت فيهِ ** حيره الشك في ظنون المعري
..
فيم السكوت ونصف شعبك ها هنا ** يشقى.. ونصفٌ في الشعوب مشردُ
يا عيدُ هذا الشعب ذل نبوغه ** وطوى نوابغه السكون الاسودُ
ضاعت رجال الفكر فيه كأنها ** حلمٌ يبعثره الدجى ويبدّد
..
صور من الماضي تهامس خاطري ** كتهامس العشاق بالاهدابِ
صمت الشعوب على الطغاة وعنفهم** صمت الصواعق في بطون سحاب
..
صامت والعتو في مقلتيه ** ظاميءٌ كالسلاح في كف وغد
..
والصمت حولى كالضغائن في عيون الأدنياء
والليل بحر من دخان شاطئاه من الدماء
يهذي كما يروي المشعوذ معجزات الأنبياء
كتثاؤب الاحزان في مقل اليتامى الأبرياء
فيتاجر الحرمان فيها
بالصلاة وبالدعاء
بالحوقلات وبالأنين
وحشرجات الكبرياء
ويبيع أخلاق الرجال
ويشتري عرض النساء
والموعد المسلول يبسم
كابتسامات المرائي
..
مثلما تعصر نهديها السحابه ** تمطر الجدران صمتاً وكآبه
يسقط الظل على الظل كما ** ترتمي فوق السآمات الذبابه
هاهنا الحزن على عادته ** فلماذا اليوم للحزن غرابه
يلتوي مثل الافاعي، يغتلي ** كالمدى العطشى ويسطو كالعصابه
..
أتدرين ياضعا ماذا الذي يجري ** تموتين في شعب يموت ولا يدري
تموتين، لكن كل يومٍ وبعدما ** تموتين تستحين من موتك المزري
تسيرين من قبرٍ لقبرٍ لتبحثي ** وراء سكون الدفن عن ضجة الحشرِ
..
والصمتُ يستقصي ** كأسئلةٍ قريحات الجفون
وكمدمنٍ ضامٍ، عليه ** لكل خمّـارٍ ديــون
النّوم متهم، ومتهم ** سهادك يا جنون
والحبّ متّهم، ومتّهم ** أسى القلب الحنون
والصوت يحترف الخيانة ** والسكوت كمن يخون
..
كيف ارتدت جسدي ؟ أأحكي أنّها: ** بيني وبين فمي تبثّ تراجمه ؟
..
لنثيثِ الصمت تصغي، وأنا ** في زحام النار أصغي لتِّقادي
كنت تأبى الصمت بل سميّته ** غير مجدٍ : فهل الإفصاح جادي ؟
..
الحرف يحسو قيأهُ في فمي ** والصمت أقسى من حسابِ الذنوب
..
يا صليل الحصى وهجس المراعي ** كيف أشكو؟ صمتي كغاب الأفاعي
يا تناجي الغصون من ذا أناجي؟ ** كيف من مدفن السكوت انتزاعي ؟
الصراصير حرّة فلماذا ** تخنق الغصة الجناح الشعاعي ؟
أنتوي أن أنوح، يعصي نواحي** كيف لا استطيع مافي استطاعي؟
البكاء الذي أناديه يأبى ** وبرغمي أبكي بلا أي داعي
هل أغني تفكرا ؟ أي خفق ** إنني الآن منشدي واستماعي
يا روابي أريد أفضي وأعيا ** كيف أفضي ومن أبثُّ اصطراعي ؟
يا التي رغم قلبها ضيعتني ** هل أرجّي أن تتركي لي ضياعي ؟
..
فصيحوا إذا شئتم سُكوتا وأغلقوا ** عليكم، وكالأحلام في النوم جاهدوا
وهبنا لكم حرّية الصمت والكرى ** حنانا عليكم، فاحذروا أن تعاندوا
والأبيات أكثر تفصيلا وتفريعا لهاجس الصمت في شعر البردوني، لاأدري ولكنّي أشعر بأنه يجد فيه ملاذا خاصا كوطن يستوطنه خلاصا لكثير من الأوجاع التي تؤذيه، يهرب للصمت ليكتب عنه حروفا لا ينبغي الصمت عنها أبدا . البردوني شاعر الشعر الذي أنطق الصمت ولو إيلاما، بل وأكثر من الصمت، فلو تتبعت لفظة “جراح” في أبياته مثلا لتكاد لا تخلو منها قصيدة في معظم دواوينه ..
هو وكما أُحب أن أسميه دائما ( البردوني شاعر المتوجعين الصُمّت ) ..
* ما بين الأقواس في المقدمة عناوين قصائد البردوني في دواوينه المختلفة ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق