بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، أبريل 08، 2011

ثلاث فرضيات عن ثقافة الراهن





في قلب مجتمع الفرجة

بقلم: جمال أكاديري






« Le spectacle organise avec maîtrise l'ignorance de ce qui advient et, tout de suite après, l'oubli de ce qui a pu quand même être connu » Guy Debord






الفرضية الأولى : "فرضية شذرية عن عالم الثقافة"


1- تكون الصورة الثقافية الملفقة للعمل الأدبي، دائما محشوة بلحظات الإلهام والصفاء، لحظات مركبة مسبقا ولها غاية محددة، كأي بضاعة مكتملة ومهيّأة للفرجة. هذه الصورة – البضاعة موجّهة ضمنيا لمحاولة تمثل اللحظة الحقيقية لما يعتمل في النتاج الأدبي. والحال أنه في مثل هذه اللحظات نفسها يتمّ العكس. إذ أنّ فعل التصنّع والأسطرة اللامرئي هو الذي يصرّ أن يمضي بطرقه المزيفة إلى فرض المفارقة واصلا بذلك إلى أعلى درجات التهويم.


2- كل المؤسسات الثقافية اليوم منظمة داخليا، غير قابلة للاختراق، وكاملة العدّة تماما لا ينقصها أي شيء. الدليل على ذلك أنّ كل أولئك الذين كانوا يطمحون فيما مضى إلى التغيير يأملون الآن تسيير مثل هذه المؤسسات بموجب نفس الشروط التي تشترطها، وقيادتها تماما كما هي بكل ما تتضمنه من السلطة والهيبة. صار يحدث هذا كما لو أنه قد قضي على تلك الفكرة القديمة التي تقول : كل مؤسسة كيفما كانت هي قابلة للنقد والتغيير. ثمّ إنه لم يعد يحدث هذا بخلق حجج جديدة ودفعها إلى الواجهة لتبرير هذا الشيء الواقع. لأن فعل التبرير نفسه صار عندهم تافها وغير مجد. وببلوغ هذه النتيجة سيهتمّ الكلّ بدراسة وسائل السيطرة وكيفية استثمارها سريعا داخل القنوات الثقافية، عوض الالتفات إلى وعود الثورة الثقافية وأحلامها وفراديسها.


3-في عالم الثقافة المقلوب، يعتبر الدوام اللانهائي لفعل الخلق والإبداع، من البدع الخطيرة التي يجب التصرف بسرعة للحدّ من تأثيراتها قبل أن تجرف معها كل شيء. وبهذا الشكل لم يعد من حقّ المبدع أن يصرّح أنه يملك كامل الصلاحية للعوم بحرية مطلقة ودون قيد، داخل فضاءات الإبداع. لأن أخلاقية مجتمع الاستهلاك المسطح واقتصاد السوق (الموضوعة أساسا للفرجة ومن أجل الفرجة) هي التي صارت تتكفّل جدّيا بمثل هذه الأمور، رغم تدنّي أهمّيتها، بتدبيج قوانين تجارية كابحة وكاسرة لكلّ جموح في الإبداع خارج الإطار المرسوم له سلفا.


4- على النقد الراديكالي لثقافة اليوم أن يكون شاذّا وغير محتمل بالكامل. عليه أن يعلن (خاصة في وجه من يجدها متينة ورائعة ومؤهلة للبقاء) أنّ قواعد بناءاتنا الرمزية كلّها هشّة وقابلة للعطب، ومن ثم القيام بكشف دقيق عن طبيعتها الحقيقية، حتى تكون عناصر المحاكمة متوفّرة لإشاعتها عند الضرورة.


5- في مرحلة ثقافية يعتقد البعض أنّها أبعد ما تكون عن التأزّم، يصير من الصعب الفصل في القضايا الهامشية لأنّ أدنى شروط الفهم التاريخي لما يقع شبه منعدمة. هنا في دائرة التجاهل كما هو الحال هناك، في هاوية النسيان، لا يتم تحاشي الإشكال إلا من أجل السقوط في أحضان التبلّد..


6- الاعتقاد في إمكان فهم مراد أي حركة ثقافية بالتعلق فقط بما تظهره لنا علنا وكأنه كشف لنية طيبة سخافة ما بعدها سخافة. علينا أن نقول في خط أسلافنا المزعجين :
إن استغلال قوى الجهل فجر للعبودية الجديدة. (العبودية الاختيارية طبعا في أوج تجلياتها).


7- يحلّ رعب الثقافة بمجرد ما تدخل رأسا إلى عصر الفرجة والابتلاع الاستهلاكي الفارغ. لهذا يبقى الهامش العريض مكانا مناسبا للأشياء الاستثنائية الساخرة التي يستحيل على أي كان استردادها في صيغ سطحية عارضة كما يحاول أن يفعل ذلك، عبثا، بعض المتبرجزين المتحايلين لأسباب غامضة تخصهم.
8- لدى كل مسؤول عن الثقافة في عالمنا العربي نية مبيتة (مشدودة إلى نوع من التديّن الكهنوتي) في ترك الأعمال الثقافية كما كانت عليه في البداية وكما هي عليه الآن من التعفّن الرمزي. لنبدأ فقط بتمييز هذه الحالة، ثم نتغلغل في تحليل معطيات أخرى. سنجد أنّ وراء كلّ هذا يكمن دافع لاشعوريّ غريب، هو أقرب إلى دافع الموت والتدمير. إنه دافع الفناء في حبّ الجثث والموتى الذي كان يجد لقوته، تأثيرا كبيرا على عادات بعض الطوائف القديمة.
9- الثقافة التوسعية المهادنة، تولد عادة من رحم تلك التيارات المفبركة المتفائلة بغد مشمس، والتي لا تتشبث بأهداب المستقبل، إلا لمنفعة خفيّة مبطنة بآمال مثالية مفتعلة، توجه بها قطعان البشر التائهة.


10 . ليس هناك من مجال للنقد في ثقافة كلّ مناصريها عصريون يدّعون التجديد والحداثة. إلا إذا كان هذا النقد، يعرف كيف يستظلّ بالصبر في انتظار ما سيأتي به المدّ الأسود في عزّ الطوفان اليومي.


11. سيكون من الواجب الآن، إعلان الحرب على ثقافة الفرجة دفاعا عن دغل مكثف لقدرات معرفية جمالية ملتبسة، راسخة في كتب عظيمة ونادرة، مازالت أطيافها تحوم حولنا.
هل سيكون فقط من الواجب؟ بل أكثر، هو مقدر وحتمي.
كتب بإشكاليات معقدة ورغم ذلك بسيطة وواضحة ؛ زوايا متعددة للنظر مقترنة بأبعاد ومسافات ؛ الفصل والوصل فيها خارج التضبيب، خارج العراقيل، خارج الخلط؛ رهاناتها كبيرة ورائعة، متجاوزة لتلك العدمية السوداء مدوخة العقول.


12. الثقافة الراهنة في حاجة إلى استراتيجيات متعددة محايثة بالمطلق لتجاربها العنيفة متوقعة بحذاقة ما تستهدفه، منشغلة باستمرار باللحظات التاريخية القصوى. أما الثقافة التي لا تفكّر في ذلك بالمرة، فإنها ستصير طبعا، مع مرور الوقت، حظيرة حقيقية للنفايات.


13. ليست التجارب الثقافية نتائج كارثية تقبر . بل صيرورات متفردة مثيرة دوما للأسئلة. ثم إن المزايدات الثقافية ( المقنعة بالزعيق وردود الفعل العقيمة)لا يمكن أن تنتج من جديد، سوى ارتماءات رجعية بئيسة.

الفرضية الثانية : "فرضية ميتافزيقية عن الحقل الثقافي- الأدبي"



الانطباع الأقل حضورا، هو أن مجمل الحقل الثقافي- الأدبي يعيش تاريخا هلاميا ولحظيا يتلاشى بسرعة البرق، قبل حتى أن نكشف فيه، عما كان يشكل خطوطه العريضة (هناك بالتأكيد وقائع كثيرة تعلن هذا. لكنها تحسب كلها على أشياء لم يعد لها معنى. من هنا يبزغ جوّ الالتباس ويأخذ يتعمم). تاريخ يتلاشى : هذا يعني أنه تاريخ بلا طموحات ولا ترقّبات ولا أية غاية إلا ربما غاية الانتفاخ الذاتي حتى الانفجار، أو أنه تاريخ برهانات حقيقية مصابة بفيروس الضياع. على أي حال، الأمور، منذ تلك البداية التي بدأت ولا نعرف متى، تزايد على نتائجها، في انحدار إلى أسفل الهاوية. وهذا يمكن التدليل عليه في مجال المعرفة، وفي مجال القراءة، وفي حقل الكتابة وبأسهل ما يكون.
هل ما زلنا سنعثر على وجهة أدبية للأشياء، على نهاية منطقية ثقافية للقضايا التي تهمنا، على أفق رحب لكي ينظر الكائن بعيدا أم أننا سنسقط باكرا في شرك العماء ؟
الحقل الثقافي الأدبي صار يفجر نفسه داخليا، وكما يحدث لبعض النجوم وسط المجرات، فهو ينشطر تاركا أشلاءه للبرهان على وجود الكارثة.
هذا الحقل لم يعد يعمل. لأنه يعرف أنه حرم من الضرورات السابقة التي فقدت في عرض الطريق الطويل الذي قطعه. حاليا عالم الغفل هو المسيطر. هذا طبعا يستدعي الاستغراب، لأن دائرة كل من الثقافة والأدب المنتزع منها قبليا أهدافها ومعانيها، لا يظهر أنها متروكة، إلا إلى شكلها الفلكي الهذياني حيث البقايا ستتشابك بأشكال العبث. فقليل من الفوضى هنا وهناك؛ شيء من الصراعات المفتعلة؛ عودة مرضية إلى البيانات والانقلابات التي تتم ضد هذا وذاك؛ أصوليات جديدة ورجعيات قديمة…الخ. وبالإضافة إلى هذا، الإعلام الثقافي يعكس بتشنّج كل ما يحدث، دفعة واحدة، ويرميه مباشرة إلى ثقوب الذاكرة، ماحيا إياه بالمرة دون أن يترك للمتتبع حيزا من الزمن للتعرف ولو على نصف الحقيقة من كل ما قيل وكتب ودارت عليه الرحى. لقد طلعت علينا شمس عصر الفرجة والتلفيق، الحريصة على نشر الأمل بمستقبل ثقافي موثوق فيه وسط أمية تخجل الصخر، تقترب من نسبة 70 بالمئة من مجموع العالم العربي. الحدث الثقافي، وسط المعمعة، صار عبارة عن رموز متراكمة مقطوعة الجذور. رموز خارجة عن الحدث نفسه، مهملات صالحة للزبالة، متوفرة بكثرة، ولا يمكن استخلاص أدنى عبرة منها، أقرب إلى الوضوح الصارخ الذي لا يراه أحد .. إنه العماء مرة أخرى !!
وبالرغم من ذلك، فمن حق أي معترض أن يتهمنا بالمبالغة، مؤكدا وجود الفعل الثقافي – الأدبي وعلى أكثر من صعيد. نحن لا نشك في ذلك. لكن كل هذا يمرّ مرور الكرام كما لو أن هناك عملية مزيفة تتسامى عما تشتبه به. فمنذ بدأ الوضع يجرّد ذاته من واقعيته وملموسيته، وبطرق ملتوية، وينفي عنه أي قصد، ويتراجع عن التمسّح بالمشروعات الكبرى؛ وهو آخذ في الابتعاد أكثر فأكثر عن حقائقه الفعلية. هناك من استشعر جزءا من ذالك وصمت. الآخرون لم يكترثوا، والبقية ستأتي بإذن الآلهة.


كثيرة هي الآراء والأفكار السريعة، التي تفوح منها رائحة الإغاثة بخصوص مثل هذه المواضيع. كما لو أن التاريخ الثقافي – الأدبي بإمكانه الانبعاث من وسط الخراب والعمل من جديد : النهضة، الحداثة، المشاريع الكبيرة للبدايات والنهايات…الخ، لكن هناك فوق كل هذا، أنظمة فعلية قادرة على ردع عنيف لأيّ انحراف لا يستجيب لمتطلباتها الحضارية. لهذا لا يوجد مكان لديها لأي خيار هامشي أو لأي رهان استثنائي شغوف بتفرده، حتى يتحقق المراد.

الفرضية الثالثة : "فرضية إستراتجية إزاء تيارات متنوعة"

إن الاختلافات؛ في القبض على عنان الثقافة وقيادتها؛ كبيرة إلى درجة معينة، بين التيارات المتنوعة التي أغرقت نفسها اليوم في السياسي، من أجل إضفاء الحماس على كل شيء. كم نود لو يتم إرساء إستراتيجية نقدية جديدة، مخترقة لهذه التيارات(التي تبقى في حركيتها محصورة داخل شعارات واهية، تتلهج اقتراحات إيديولوجية زائدة على الفائض )صانعة حدثا فكريا مغايرا، منغرسة بحذاقة في صلب ما ترومه من قضايا أساسية، منشغلة دوما بعملية تقويض داخلية، لما يتساقط راسبا في القعر الثقافي. وكم نود منها أن تكون، هجومية أكثر منها دفاعية ّ؛ تتجذر زيادة في رؤى انفراجية لعلاقات فكرية منفتحة جدّا وغير متمركزة، وتتغلغل أكثر فأكثر في مناطق اللامفكر فيه من مجهول الثقافة.


أولا أن تعلن : أنه حان الأوان لإنقاذ الثقافة من سخافات النشأة والتوسع ومزايدات المعرفة؛ فإننا إن لم نقم بذلك نغامر بالانزواء في أفق فكر ضيق لا ينتهك حتى حرمة نفسه فبالأحرى أن يلامس موقعا انقلابيا تعجز أي نظرة على احتوائه.
 ثانيا أن تحذر مما سيأتي : فحتى إذا تحققت نقديا، عليها ألا تزاول عملها بصورة مرتسمة قبليا (كما هو الحال مع طوبيا الثقافة الكونية التي تغنت بها الحداثة) فتكون محاصيلها الوهمية محور كل ما ستفعله مستقبلا. بل التوتر فيها بعيدا من أن يختزل إلى مسرح فرجة، يمارس تباعا حركة فكرية دائمة وشاملة (انتهاكية وتفكيكية) لها، طبعا، خصائصها الاستثنائية.


وإنه هكذا، انطلاقا من مشروعية هذه الإستراتجية المبتغاة (وليس بالنظر لفوائد تحصلها عقليات ما زالت تواصل ألاعيب طريفة فيما يخص تشييد عمارة الثقافة الممسوخة)، الحاضنة لكل مرونة التفكير وطلاقته، البالغة تلك الخلخلة الشاملة والملموسة؛ يكون الشيء الثقافي موضع اختبار دائم على مستوياته الجمالية والأخلاقية والمعرفية، بحيث يكشف لنا هذا الاختبار أن مصير المجتمع أن يبقى على الدوام موجها لرهانات أشد حرجا، ومقيدا بأسلوب مرح في دوامة فكر لا يهادن. لكن تيارات ثقافة اليوم لم تعد تحقق أي شيء، صارت على الأقرب ترجيعا كاريكاتوريا لما فات، وإشارات مسكوكة لما يحضر وينسكب أمامنا في قالب استعراضي؛ وهي الآن سجينة لحضارة مفبركة ومزاجية، سائرة تتهاوى عميقا، داخل دواما ت الاجترار.


تبنيها للحداثة اليوم يذهب في مجريين : فهي بكائية باسم حنين مفقود لمستقبل، متمثلا تارة، وتارة أخرى باسم نظرة رجعية لأصل غير واقع. تلك هي الأسباب التي من أجلها تمزج بعض التيارات التكنوقراطية، بنوع من التعسف الموضوعات الخارجة لتوّها من طاحونة الموضة ، بالتي ما زالت معششة في أكوام الماضي وملازمة باستماتة لبريقها غير الضائع. (وهنا يتم علنا وعنوة، اصطناع خرافة ثنائية جديدة عنوانها : الأصالة والمعاصرة).
ومن هنا نرى الصعوبة المركزية لبعض تيارات ثقافة اليوم : لما تصير إنجازا ذاتيا مستقلا نسبيا، عليها ويا للأسف أن تعود لاستثمار ما نسيته في الطريق إبان هروبها إلى العجز والتواكل؛ وليس في صالحها التشبث بأهداب رومنطيقيي الثورة المبالغين في السذاجة. وحين ستعاند بالرفض ستصير مرة أخرى صيدا سهلا لصناع الآراء الصائبة وأعيان الممارسات الثقافية الذين حسب الأصول سيعكسون الأدوار ويطلبون منها أن تعلن فقط الإيمان بهويتها، فتهبط الفضيلة إلى ربوعها ويتم إنزال ستار القداسة.




نقلا عن موقع الاوان الالكتروني
http://www.alawan.org/%D8%AB%D9%84%D8%A7%D8%AB-%D9%81%D8%B1%D8%B6%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%B9%D9%86.html

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق